" .. ولكن على أية حال ، يمكنكم أن تعتبروا هذه المحاضرة عن فلسفة ال .. "
هرعت تقرع باب القاعة بعنف ، وتفتحه . ينظر لها الدكتور بعد أن قطع حديثه نظرة ازدراء . ولكنه يشير بوجهه إلى الداخل ، فتبتسم الفتاة وتهم بالدخول ، وتجلس عند منتصف المدرج .
ينظر إليها الطلاب . يحاولون التعرف على من تركت الشهر الأول من الدراسة ، ولم تأتِ إلا اليوم . كانت شاحبة وبيضاء مثل الحليب ، كعقد رقبتها الؤلؤي ، الذي يجعل من وجهها وُجَيه . تبدو طفلة ، رغم أنها في الفرقة الأولى الجامعية . جلست جوار طالب وطالبة . يتكلمون ، ويوجهون الحديث إليها أحياناً . ويعلو صوت الدكتور بانتظام : " ششش ! " ولكنها لم تنبس ولم تلتفت . وكان همها هو التحديق بعينيها السوداوين الواسعتين إلى وجه الدكتور ، بدون أن يرتد طرفها مرة .
" .. ومن هنا كان فقدان الانسان لحواسه ، يجعل منه شيئاً أحط من دودة الأرض . وما كان لأي أحد أن تكون له معرفة - أية معرفة - إن وُلِد بلا حواس . فإن سألت المولود الأعمى عن اللون الأحمر سيخبرك أنه لا يستطيع حتى تخيله ، وإن سألت المولود الأطرش عن معنى أن يكون الصوت حاداً أو غليظاً ، فلن تكون له أدنى فكرة أو تخيل ، كذلك لو أحضرت رجلاً مولوداً بلا أية حاسة من الحواس الخمس ، فلن تكون له فكرة عن أي شئ . كما أن الحواس هي جالبة الفن ، فما كان لرسام أن يرسم لولا بصره ، وما كان لموسيقيّ أن يؤلف لولا سمعه . وأما عن بيتهوفن ... "
لاحظ الدكتور الفتاة البيضاء ترفع يدها وتلوح طالبة لسؤال ، فقال : " أنزلي يدك الآن ، أرجو عدم المقاطعة .. أعلم أنكِ ستتحدثين بلغة وعظية على لسان المثاليين والعقليين . " ولكنها هزت رأسها بالنفي ، إلا أنه تجاهلها .
" بيتهوفن لم يكن أطرش . بل كان يسمع ثم أصابه الصمم . وهذا يفيد تشبعه بذاكرة موسيقية قوية أساسها حاسة السمع . ذلك عندما نعلم أنه ألَّف السيمفونية التاسعة وهو أصم تماماً . فهل كان يستطيع أن يؤلفها إن كان قد وُلِد أطرش ؟ كلا ! "
غاصت الفتاة البيضاء في ذاكرتها . ورأت غرفة الموسيقى ، وعائلتها وأصدقاءها يقومون بالعزف واللهو والرقص ، وتلهو هي معهم بعشوائية . يأتي الليل ، ويرحل الجميع ، وتدخل هي الغرفة وحدها تحت الضوء الخافت ، وتجلس إلى البيانو . تتأمله جيداً ، وتحدق إليه بعينيها السوداوين اللامعتين . تضغط بعض الأزرار عشوائياً ، ثم تضغط البعض الآخر ، والمزيد بعنف . تترقرق عيناها فتنسكب القطرات على أصابع البيانو . ثم تعيد الكرة بعنف أكثر . يدخل أبوها فجأة وينهرها على إزعاجه من نومه ، فتهرع الأم وتعترضه وتحتضن ابنتها ، فتنتحب أكثر .
طفت من جديد ، وأحضرت معها ترقرق عينيها . ولكنها نسته بمجرد أن رفعت يدها مرة أخرى ، فقال الدكتور : " ألا تنتقين غير اللحظات الساخنة والتي أكون فيها في غاية التركيز ؟! يمكنك أن تؤجلي سؤالك الآن " فأنزلت يدها ونظرت حولها ، ثم تابعت التحديق إلى وجه الدكتور .
" حسناً .. إذن فالعقل ليس له فائدة بدون الحواس ، ومرتبته متأخرة في الأهمية بعد الحواس . وإلى من يقولون بوجود النفس ، نقول لهم إن كان للنفس وجود ، فوجودها هو وجود الحواس . وأما عن العواطف والشعور فمركزها الأساسي هو الحواس . حتى الشعور النفسي أو المعنوي . فأنت لن تشعر أن ذلك الرجل مجرم لولا أنك رأيته وأحسست بجرمه . ولن تكره صوت الحمار أو الخنزير بعقلك بل بمجرد سمعك له . إذن فكل الإحساسات والعواطف مركزها الحواس . حتى الحب . حتى لغة العين وتوارد الخواطر " يصمت الدكتور قليلاً ، في حين ينتبه طالب يجلس في أقصى الخلف ، وينصت جيداً . يقطع الدكتور صمته : " أنت تشعر أن صديقك مهموم ، لأنك تراه هكذا بعينيك .. تشعر بحب محبوبتك لأنك ترى ملامحها وتسمع نبرة صوتها . الحواس هي كل شئ ، لغة كل شئ . ولهذا .. "
ترفع ذراعها مع اتساع عينيها عن آخرهما .
" ماذا بكِ أيتها الفتاة .. ألم أقل لكِ ألا تقاطعيني ؟ .. سأترك وقتاً للأسئلة في نهاية المحاضرة "
يهبط ذراعها . تحرك جذعها أماماً وخلفاً كالمهمومة . تغوص مرة أخرى ، تتابع الحلقة الثانية من تذكرها . تحتضنها أمها ، فتنتحب أكثر . تحدق في خفية إلى وجه أبيها وهو يتكلم : " يجب أن تعلم أن ذلك هو قدرها ، يجب أن تتعايش معه ، وإن لم تتعود حتى الآن ، فمتى ستتعود إذن ؟! " تدير عينيها إلى وجه أمها : " دعها وشأنها . أنت تفسد نفسيتها الآن . دعها تفجر ما بداخلها من كبت . هذا هو علاجها الآن " قال متأففاً : " علاجها ؟! حسناً ، وإن كان . ألا يكون إلا وأنا نائماً ؟ .. ما ! .. ما هذا ؟! " ونظر إلى ابنته ، وجدها مبلولة ، وتسير المياه الصفراء متجهة إلى قدم الأم . لقد بالت على نفسها .
طفت مرة أخرى وأحضرت معها شيئاً . لم يكن جديداً . ولكنها حاولت أن تتناسى هذا الشئ بامساكها بالقلم . خطت على ورقة قطعتها، ولكن القلم لم يكتب لجفافه . توترت، ونظرت حولها، ثم رفعت ذراعها عن آخره بدون تركيز .
" نعم .. هل ستيجيبين عن السؤال ، هل لديكِ حل ؟ "
توترت أكثر ، وأحست أنها مشتتة . ولكنها فجأة وبشدة حركت رأسها بالنفى . فقال الدكتور : " حسناً ، لا زلتِ في ضلالكِ القديم .. لقد قلت أن الأسئلة في نهاية المحاضرة . ولكني سألت سؤالاً الآن . وسأعيده مرة أخرى .. لو أننا جمعنا بين صديقين ، أحدعهما أعمى ، والآخر أطرش . وقد مات والد الأعمى . كيف يتسنى للأطرش الأخرس أن يخبر الأعمى بهذا الخبر ؟ "
بضع ثوانٍ فاتت بين السكون والهمهمات ، وقال الدكتور : " مشكلة صعبة ، أليس كذلك ؟ " ثم انتظر قليلاً حتى قال : " حسناً ، الحقيقة أنه من المستحيل أن .. "
" بل يمكن .. "
قالها مقاطعاً الطالب الذي يجلس في أقصى الخلف . فتنهد الدكتور : " حسناً .. كيف ؟ "
" لقد أقررت أنهما صديقان . فلابد أنهما يتخاطبان مع بعضهما . ولكن كيف يتسنى لي أنا أن أعرف كيف يتخاطبان ؟ جوابي هو أنه سيقول له الخبر بالطريقة التي تعودا أن يتخاطبا بها ، أياً كانت . هما صديقان ، إذن فلابد من التخاطب . ولن أستبعد حتى فكرة قراءة الأفكار . هما يتخاطبان ، ولكن بلغة أقوى من لغة الحس "
تنهد الدكتور مرة أخرى ، وضحك ضحكة خفيفة وهو يقول : " قراءة أفكار ! اجلس اجلس .. أنا لن أتناقش معك في هذا . يكفي أن أقول لك أن تقوم بالغاء افتراض الصداقة بينهما ، وسينتهى كل شئ "
زادت تحركات الفتاة البيضاء وتوترها ، بل زاد شحوبها . وصار مسموعاً صوت احتكاك لآلئ عنقها . ولم تفارق عيناها وجه الطالب الخلفي حين تكلم ، حتى غاصت في حلقتها الثالثة والأخيرة . بينما هي واقفة فوق بولها الأصفر . ابتعدت أمها فجأة ما أن أحست ورأت البلل . احمرَّ وجه أبيها : " ما هذا أيتها المعتوهة ، أتسخرين ؟ أم ماذا دهاكِ أيتها البكماء ؟! " وصفعها صفعة جعلتها ترتمى أرضاً . صرخت الأم في وجهه ، فخرج من الغرفة . ثم احتضنت ابنتها ببولها ، وأخذت تبكي ، فتبكي البنت ، فينتحبان .
طفت آخر مرة ، وأحضرت معها كل شئ . فشرعت تبكي بالتدريج . ورفعت ذراعها في ارتعاش .
" طفح الكيل ، سأطردك إن .. ماذا ! ما بكِ ؟! "
لاحظ الدكتور بعينيه أنها تبكي ، فعلم ذلك ، فقال : " حسناً ، لا أعتقد أني قابلت طالبة مثلكِ من قبل . تبكي لأنها تريد أن تسأل سؤالاً .. ! "
ولكنها هزت رأسها بالنفي بعنف ، حتى كادت تنكسر رقبتها . وأجهشت بالبكاء ، وقامت من مقعدها مصدرة صوت أزيز من فمها . ثم علا صراخها وبكاؤها وصوتها الغير مفهوم . وصعدت على المدرجات ، وتحركت هابطة بين رؤوس الطلاب وهي تتابع بكاءها وألفاظها الغريبة المبتورة . و وصلت منتحبة إلى الدكتور ، الذي وجد ثوبها مبتلاً ، ويسبح الماء الأصفر على الأرض حتى كاد أن يلامس قدميه .