على أرض حربية فُرِشَت فجأة , ابتدأ الجيشان العدوان يستعدان للمعركة الطاحنة . عن اليمين وقف جيش رداء جنوده أبيض . أخذوا في الانتشار والاستعداد وتكوين الصفوف . وفي أقصى الشمال من الأرض التي لم تُعَد إلا للحرب , تَكَوَّن جيش آخر في رداء أسود , عداءً للجيش الأبيض . سارعوا في تكوين أنفسهم . اصطف الجنود في المقدمة , وتابعهم الخيالة وأصحاب الأفيال , وشيدوا قلعتين عظيمتين , كما فعل بالضبط أصحاب الجيش الأبيض . وفي منتصف الجيش الأبيض وقف الملك و وزيره , و وسط الجيش الأسود وقف الملك , ولكنه نظر حوله فلم يجد وزيره . أين ذهب وزير الملك الأسود ؟ لا يمكن بدء الحرب إلا بوزير الملك . انتظر الجيشان حالما تتم إشارة بدء الحرب , و وسط دربكة البحث , ظهر شبح أسود من بعيد ..
***
أدخل يده في الكيس القماشيِّ بعنف . توتر ونظر حوله . اقترب برأسه أسفل المنضدة التي يجلس أمامها , والتقط قطعة سوداء , و وضعها على رقعة الشطرنج . ثم نظر إلى من أمامه مبتسماً وقال : " ماذا كنت ستفعل لو لم أعثر على الوزير ؟ " فقال الرجل الثاني بلا تعبير وجهي : " لا أعلم .. ربما كنت سآخذ الحقيبة وأتركك هنا مقيداً " فقال الأول مشيراً إليه بسبابته : " إجابة خاطئة ! " وأخرج لفافة تبغ من جيبه , وأشعلها بعدما حك عود ثقاب في أعلى إزاره . ثم أكمل : " تريد رأيي ؟ كنت سأحضر أي شيء مكان الوزير .. حصى , قطعة خشب , أو أقطع خصلة من فروع هذا الكوخ , وألعب بها على أنها وزير . أنا رجل لا أعترف باليأس , ولا بالخسارة " وسكت قليلاً ثم قال وهو يضحك : " وبما أنني لا أعترف بالخسارة , فسأفوز " ونظر إلى حقيبة ضخمة بجوارهم , تخِرُّ منها نقود ورقية أمريكية . نظر إليها الرجل الثاني , ثم أعاد النظر إلى الرجل الأول , وقال وهو يسعل : " فالنلعب إذن ! " . عدل الرجل الأول قبعته المكسيكية كرمز للتأهب , في حين خلع الرجل الثاني قبعته , وأخرج من جيبه زجاجة رفيعة ورشف منها بقوة .
وضع الرجل الأول لفافته بين شفتيه , وجعل مقدمتها تتوهج بشدة , وبدون أن يخرج ما شهقه من دخان , قال وهو يحكُّ لحيته الصفراء : " ومن ذا الذي قرر أنك ستلعب بالجيش الأبيض ؟ إني أحب أن ألعب بالأبيض ! " وبدون أن يتكلم الرجل الثاني , أخرج عملة معدنية من جيبه و وضعها على رقعة الشطرنج . فقال الرجل الأول : " حسناً , سأختار الرأس " سعل الرجل الثاني وقذف بالعملة ثم لقفها . فتح يديه , فقال الرجل الأول : " لا بأس , سأتركك تلعب بالأبيض .. على كل حال سأفوز , وأحصل على غنيمتنا وحدي , وأتركك هنا مقتولاً , وأنطلق على فرسنا الوحيد , وينتهى كل شيء ! " فقال الثاني ببرود كاتماً سعاله : " ولِمَ لا أفعل أنا ذلك ؟ " فابتسم الأول وقال : " ببساطة لأنك ستخسر يا صديقي " فقال الثاني بصبر : " فالنلعب إذن ! "
***
قُرِعَت طبول الحرب بصوت متوسط رتيب , ثم أخذت في الازدياد قوة وسرعة , ومعها ظهر زئير جنود الجيشين , واستعد الرماه أعلى القلاع بشد أوتار أقواسهم , ثم فجأة علت أصوات الطبول , وتابعها نفخ في صور عظيم , غطَّى بصوته أرجاء الأرض الحربية كلها . وبعد لحظات من اختفاء الصدى المدوى , انطلق جنود الجيش الأبيض في أقصى سرعة وبكل قوة , فتابعهم انطلاقاً جنود الجيش الأسود , واقتربا من بعضهما بالتدريج , ورويداً رويداً .. تلاحم الجيشان العظيمان تحت الشمس المحرقة , وتداخلت السيوف في الضلوع , وتصدت الدروع للسهام , ومنهم من لا يتصدى فتغوص الأسهم في الصدور والرقاب والأعين . غلب على الجيش الأسود القوة والوحشية , و وهن الجنود البيض قليلاً , فأخرجوا الخيالة للهجوم , فقتلوا عدداً كبيراً من الجنود السود , وانتقلوا إلى الفتك بالفيلة قبل أن تتحرك , فلم يستطيعوا لاحتماء الفيلة بالخيالة والقلاع , فتراجع خيول الجيش الأبيض , وأمر ملكهم رجال أفياله أن يتسللوا من وراء الجيش الأسود , حتى يلهو خيالهم وأفيالهم . فانطلقت الأفيال البيضاء بكل قوة ودهاء بطريقة دائرية , وبغيتهم مفاجأة العدو الأسود من الخلف , وأثناء ذلك كان الجنود البيض يدافعون ويهجمون ببسالة , واستعاد الخيالة ثقتهم و واصلوا الكر والفر . حتى فوجئ الجيش الأسود بالأفيال البيضاء من خلفهم , فأرسل ملك الجيش الأسود الخيالة المتبقية والفيلة للدفاع أمام هذا الكم الهائل من الأفيال البيضاء , وترك جنوده أمام خيالة الجيش الأبيض , ففتك الخيالة بالجنود السود كلهم , وتقدموا محتمين بدروعهم من سهام القلاع السوداء , وكان هدفهم واحد . حاصروا الملك و وزيره , فقتلوا الوزير . وجاء الوزير الأبيض , وبأمر من الملك , تقدم الوزير الأبيض لفصل رأس الملك الأسود , وقبل أن يصل إليه , ظهرت عاصفة في الأفق البعيد , وتغير لون السماء إلى لون أحمر مخيف , وازدادت العاصفة وجاءت من كل مكان , وكونت إعصاراً فيه نار رفع الجيشين معاً , ودك الجبال دكاً , وأطاح بكل فرد من الجيشين . ثم اختفى كل شيء فجأة , وهدأت العاصفة , ورجعت السماء إلى لونها الطبيعي .
***
كان الرجل الأول يخلخل لحيته الطويلة الصفراء بأصابعه , وقبل أن يقول الرجل الثاني : " كش .. " عطس الرجل الأول عطسة شديدة , جعلته ينتفض من مكانه , فهز المنضدة بركبتيه , وأوقع قطع الشطرنج بمرفقيه , فلم يتبق غير بعض القطع التي غيرت أماكنها من أثر الهز . فقال الرجل الثاني : " ما هذا ؟! " فرد الأول بطبيعية : " ألم تر ؟! لقد عطست " فرد الثاني : " والآن هل تتذكر أماكن القطع ؟ " فحك الأول لحيته , ثم قال وهو يزيل باقي القطع : " في الحقيقة .. لا "سعل الثاني وقال بصوت عالٍ : " ماذا ؟! كنت سأفوز عليك الآن إذا وضعت هذا الوزير ! " ورفع له الوزير الذي كان مازال بيده , فرد الأول بكل هدوء : " إنك لم تلعب هذه اللعبة على كل حال , بل على الأقل لم تكمل كلمة كش مات "فقال الثاني بصبر : " يمكنني أن أعتبرك منسحباً الآن " وأكمل في نبرة غضب : " ومن حقي ساعتها أن أطلق عليك " و وجه يده اليمنى ناحية مسدسه المعلق بالجراب , فوجه الأول يده على الفور مكان مسدسه هو أيضا , وقال بنبرة محذرة : " آ .. آه " ونظر له نظرة معناها أن يهدأ , فأشاح الثاني يده عن مسدسه , وقال الرجل الأول : " اهدأ يا رفيقي , واعلم أن هناك مبادئ وقوانين .. يمكنك أن تعتبرها أخلاقية .. تقاليدية .. لا يهم , المهم هو أننا قد اتفقنا على شيء , دعنا لا نفسده .. أنت لم تفز يقيناً , فليس لك الحق أن تقتلني "كتم الثاني سعاله بصعوبة وقال : " وما شأني أنا بحادث عَرَضي , أو ربما غير عَرَضي .. " قاطعه الأول : " ماذا ! أتشك أني عطست عن جد ؟! " فرد الثاني متجاهلاً : " وما شأني أنا بحادث أفسد فوزي ؟ " وسعل سعالاً متكرراً , فتكلم الأول بكلام يتخلل السعال : " وما شأني أنا بفوز لم أشهد عليه بنفسي , ولو حتى عينياً ؟ " فقال الثاني بعد انقطاع سعاله : " والآن .. ما العمل ؟ " أخرج الأول لفافة تبغ وقال وهو يشعلها : " أنظر .. لقد اختلفنا على توزيع النقود , دعنا لا نختلف على المبادئ .. فالنلعب مرة أخرى "
بدأوا في تجميع القطع المتناثرة على الأرض , قال الرجل الأول وهو يلتقط قطع الشطرنج : " أتعلم يا رفيقي , أنت أول شخص في تكساس كلها , يهددني بالمسدس كما فعلت " ثم وضع آخر قطعة على رقعة الشطرنج , فقال الثاني : " أتقصد إخافتي ؟ .. واحد منا سيموت , أتذكر ؟! .. لا مجال للخوف الآن " وبعد فترة صمت , أردف الرجل الثاني : " أنا لا أعلم لِمَ لم نفعل مثل كل الناس ونتقاتل قتال سرعة رمياً بالرصاص بشكل عُرفي ؟ " فقال الأول : " لقد اتفقنا على كل حال , وإني لأرى في الشطرنج عدلاً أقوى . أم أنك ترى غير ذلك ؟ "فرد الثاني وهو يشرب من زجاجته الرفيعة : " كلا , أبداً .. هيا فالنلعب " قال الأول في سرعة : " أعطني العملة " فأعطاه إياها , فأدارها الرجل الأول لأعلى ثم لقفها , فإذا بالرأس تظهر بارزة , فقال : " سألعب بالأبيض " فقال الثاني : " ولكنك لم تختر شيئاً ! " فرد الأول : " ألم أختر في المرة السابقة الرأس ؟! " فقال الثاني بصبر : " لك الأبيض لك الأبيض .. إني لن أتحمل عطسة أخرى ! " هز الأول رأسه مع إبتسامة كأنها تقول : " هراء أيها الغبي ! " ثم قال : " ألن نبتدئ ؟ " فرد الثاني : " هيا " ورشف بقوة من زجاجته , فقال الأول : " إنك تُفْرط في الشرب ! هل تفوز بتلك الطريقة ؟! " وضحك وقال ساخراً : " إني أخاف عليك إن فزت عليّ , فتقتلني , فتنطلق على الحصان وأنت سكران , ولا تكاد ترى أمامك رغم الشمس الحارقة , فتسقط من فوقه كالميت ! " وضحك باستفزاز , فسعل الرجل الثاني وأشار للأول أن يبتدئ .
***
على الأرض الحربية الهادئة , تكون الجيشان مرة أخرى . نفس الأشخاص ونفس الأعداد , حتى أن من مات في المعركة السابقة قد بُعِث من جديد . ولكن هناك اختلاف طفيف , فعن اليمين وقف الجيش الأسود , وعن الشِمال وقف الجيش الأبيض . إنهم لم يبدلوا الأماكن , ولكنهم فقط قاموا بتبديل الملابس , وما زال العداء العظيم قائماً على كل حال , فسرعان ما شُتِّتَ الصمت بدربكة الطبول , وزعق الصور المارد بصوت أُخرَويّ , وبدون انتظار انتهاء صداه الرهيب , اقتحم الجيشان الفراغ الهوائي بقوة شرسة , أشرس من المعركة السابقة , حتى التحما منصهرين في بعضهما , وكونوا كتلة رمادية مُوَحَّدة , تظهر وسط الأرض الصلبة الجرداء , من أعلى قمة جبل فيها .
وفي ظل احتدام المعركة القاسية .. وقف رجل في مُنتأى أعلى جبل . يقرأ تعاوييذ بلغات هلامية , وقد بسط ذراعيه بجانبيه . عيناه مغلقتان . عن أمامه قصعة سوداء , يتدفق منها دخان أبيض . فتح عينيه فإذا بها بيضاء تلمع . رفع القصعة وشرب ما بها . أنزلها .. وانتظر .
سادت قوة الجيش الأسود . وانطلقت سهامهم عبر الأفق تغطي ضوء الشمس الخافت , في حين وهن الجيش الأبيض كثيراً , وشاب زيه لوناً أحمر مختلطاً بالأسود العفر . حتى وجد الوزير الأسود الثغرة الأخيرة التى منها يتم النصر النهائي .. علم الملك الأبيض أن نهايته قد اقتربت , فأشار لوزيره إشارة , جعلت الوزير يخلع بوقاً معلقاً في سترته , ونفخ فيه بكل قوته تجاه جبل سحيق .
نزل الرجل المشعوذ من الجبل ,مرتدياً زي جندي أسود . اتجه ناحية صفوف الجيش الأسود , وقبل أن يهم الوزير بتنفيذ خطته النهائية , استوقفه المشعوذ , ونفخ في وجهه نفخة عميقة .. ساد المكان ظلام فجأة , واحترقت السماء بصواعق سوداء . ولما أفاق الوزير الأسود من سباته , عدل عن خطته , وبدأ في التراجع والتقهقر بجيشه في شكل غريب .
***
كان صهيل الفرس خارج الكوخ الخوصي الصغير يعلو تدريجياً , وظل يشد عليه لجامه , حتى انفك من مكانه . بالكاد لاحظ الرجل الثاني ذلك خلال فتحات الخوص وبين ضوء الغروب الخافت , فأسرع يلحق بالحصان , ثم رجع . نظر إلى رقعة الشطرنج قبل أن يجلس , وانتابته ريبة تحولت إلى يقين . جلس مكانه , و وقعت أسفل قدميه قطعة شطرنج بفعل طائش من يديه , فانحنى بجسمه ورأسه ليحضرها , و وضعها مكانها بيده اليسرى , وأبقى يده اليمنى بين فخذيه , وظل ينظر إلى وجه الرجل الأول , فقال الأول : " ماذا ! لماذا تنظر إليَّ هكذا ؟! " ظل الثاني على صمته , يكتم سعاله المتتابع . ينظر إلى رقعة الشطرنج , ثم يعيد النظر إلى الأمام , ونظراته تكاد تثقب وجه الرجل الأول . قال الرجل الأول بصورة ساخرة مستنكرة : " ماذا ! قل لي أني غيرت من مواقع قطعك ؟! " ابتسم الرجل الثاني قليلاً , وظل صامتاً . ضحك الرجل الأول ضحكة ساخرة وقال : " العب يا صديقي , العب ! " أشاح الرجل الثاني نظره عن الأول بصعوبة , واتجه ببطء إلى اللعب بيده اليسرى , وما زالت اليمنى بين فخذيه . لاحظ الأول ذلك , فقال : " حسناً .. والآن لماذا تضع يدك بين فخذيك ؟ " رد الثاني ببرود : " فقط أحببت أن أدفئها .. أم تمانع ؟ " فقال الأول : " لك أن تدفئها .. إني على وشك أن أجعلك بارداً بلا دماء " ثم انهمك في اللعب أكثر , وأصبح على أعلى الدرجات من التركيز .
***
اختفى المشعوذ وسط الدربكة , وتراجع الوزير الأسود عن هجومه , و وضع ملكه في وضع حرج , فاستغل الجيش الأبيض هذا الموقف بالهجوم بكل قوته قاطبةً , فتراخى الجيش الأسود بكل من فيه . قُطِعَت رؤوس الفرسان وأيديهم وأرجلهم من خلاف , وتهاوت الأسهم والرماح على أحصنتهم فَشُلَّت حركاتها , وأصبح الجنود كالعصف المأكول , وهُدِمَت القلوع السوداء ثم احترقت . انهار الجيش الأسود تحت سماء الليل , والنجوم تتلألأ تشاهد المذبحة . ولم يتبق غير الملك الأسود , الذي حاصره جميع أفراد الجيش الأبيض , يرمونه بالحجارة والسهام , حتى تقدم الوزير , وشَقَّقَه إلى نصفين .
***
قبل أن يلعب الرجل الأول لعبته الأخيرة , أخرج لفافة تبغ وأشعلها من لهب الشمعة بجواره على المنضدة . ثم قام بتحريك وزيره , وقام من مجلسه , وقال وهو يرفع مسدسه ويوجهه نحو الرجل الثاني : " كش مات .. يا رفيقي " .
خرجت ثلاث رصاصات بصوت مدوِّي , اخترقوا المنضدة , وزلزلوا رقعة الشطرنج , وتفرقوا عند الجسد المراد , فأصابوا البطن والصدر والرقبة .
سقط الرجل الأول على ركبتيه ميتاً , ورأسه منكباً على رقعة الشطرنج فوق المنضدة . أخرج الرجل الثاني يده اليمنى من بين فخذيه , فإذا به يحمل مسدساً . قام . أدخل هذا المسدس في جراب مُعَلَّق عند قدمه . شرب من زجاجته الرفيعة وظل يسعل كثيراً . ارتدى قبعته المكسيكية , ثم حمل الحقيبة النقدية , وخرج في ظلام الليل منطلقاً على الفرس .